فاس.. بين الصعود المتواصل لـ”النخبة الفاسية” والتراجع المستمر للمدينة

”بالرغم من تدهور  مدينتهم الأصلية، لازالت النخبة الفاسية في ازدهار كبير”. هكذا اختارت مجلة ”جون أفريك” افتتاح ملفها ضمن عدد شهر غشت، والذي خصصته المجلة الذائعة الصيت للنخب الفاسية المنحدرة من مدينة فاس، تحت عنوان: ”القوة والسلطة والمال والدين”.

وإذا كانت الجملة الافتتاحية قد اختيرت للدلالة على قوة وازدهار هذه النخبة، إلا أنها تحمل في طياتها تناقض حاد وتحيل على إشكالية حقيقية، إذ كيف للمدينة التي عرفت نخبتها بالنفوذ والقوة، أن تعيش على وقع وضع اقتصادي صعب لا تخطئه الأعين ولا الأرقام؟

وضعية اقتصادية صعبة تكتشفها الأرقام

يعيش بعمالة فاس بحسب معطيات إحصاء السكان الأخير، حوالي مليون ونصف المليون نسمة، بكثافة سكانية تبلغ  3464 نسمة بالكيلومتر مربع.

تؤكد الأرقام الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط  وجود المدينة، وجهة فاس مكناس ككل، في وضعية ركود اقتصادي، حيث تصل نسبة البطالة بالجهة إلى 12,5 بالمئة، وقد كانت هذه النسبة تبلغ سنة 2015 حوالي 8,6 بالمئة.

وبحسب ذات المندوبية، فإن نسبة البطالة داخل عمالة فاس لوحدها تبلغ أكثر من 19 بالمئة، وتصل نسبة الفقر في بعض مقاطعات فاس بحسب إحصاء سنة 2014 إلى أزيد من 8 بالمئة، بينما تصل نسبة الهشاشة في بعض المقاطعات إلى حوالي 15 بالمئة.

تبين هذه الأرقام الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط، وخاصة المتعلقة بالبطالة والشغل، طبيعة الركوض الاقتصادي الذي تعيش على وقعه المدينة والجهة ككل، إضافة إلى النمو السكاني الكثيف والمتزايد الذي تعرفه المدينة جراء كثافة الهجرة نحو مناطق مجاورة.

السلطة والمال والنفوذ

تختزل الكلمات الموجودة في العنوان، خصائص النخبة الفاسية التي جمعت بين تكوين  ”إمبراطوريات” اقتصادية وتسلق مراتب القرار والسلطة داخل الدولة المغربية.

فعلى المستوى السياسي، وبحسب دراسة سابقة قامت بها أمينة المسعودي، والتي تحمل عنوان “الوزراء في النظام السياسي المغربية 1955-1992: الأصول، المنافذ،المآل”، فإن الوزراء المنحدرين من مدينة فاس يهيمنون بشكل كبير على الحكومات المتعاقبة منذ عام 1955 إلى سنة 1985. وكشفت الدراسة أيضا أن من أصل 196 وزيرا خلال تلك الفترة، 67 وزيرا ينحدرون من مدينة فاس وحدها، أي بنسبة 34.1 في المئة.

وفي الجانب الاقتصادي، فيكفي الاطلاع على قوائم مجلة ”فوربس” الخاصة بالأثرياء على مستوى المغرب، والتي تضم في قائمتها الملياردير عثمان بن جلون، مدير مجموعة ”BMCE BANK”، إضافة إلى مريم بناني التي حققت ثروة من خلال عملها في مجال التصميم الفني.

وخارج قائمة “فوربس”، توجد العديد من المقاولات المغربية الناجحة، حيث نقلت مجلة ”جون أفريك” في ملفها الخاص بالنخبة الفاسية، أن هذه الشركات التي تعد رقما مهما اليوم في السوق المغربية، جاءت نتيجة الهجرة التي قامت بها مجموعة من الأسر الفاسية نحو مجموعة من المراكز الاقتصادية الكبرى، مثل مدينة الدار البيضاء.

محاولة للتفسير

قصد محاولة تفسير هذا التباين الحاصل بين نخبة تعتبر نافذة وقوية على المستوى السياسي والاقتصادي، ووضعية المدينة التي تعد ”المنبع”، طرحنا ذات السؤال على منير الحجوجي الوردي، أستاذ بكلية العلوم والتقنيات بفاس، وصاحب كتاب “القوات المسلحة الإيديولوجيا”، والذي اهتم في عدد من مقالاته بمجموعة من التشكيلات الاجتماعية من بينها النخبة الفاسية.

يجيب الحجوجي الوردي بأنه “من المحتمل أن يكون وراء الأمر أسباب تاريخية، حيث تتقاطع جميع الدراسات التي درست النخبة الفاسية على عنصر الجري نحو المال والسلطة بدل عناصر أخرى، إضافة إلى عدم الاستقرار التي عرفته هذه التشكيلة الاجتماعية عبر التاريخ، انطلاقا من الهجرات المختلفة، وصولا إلى الهجرة الأخيرة من الأندلس نحو فاس. الشيء الذي شكل خوفا تاريخيا/ جنينيا قد يفسر السعي نحو التمركز في مواقع الجاه والسلطة، وعدم تطور هذه ”النخبة” لتحذو حذو البورجوازية الأوروبية مثلا التي قادت مجموعة من التحولات الإجتماعية والثقافية ”.

أليست فكرة ”الفاسي” فكرة وهمية في حد ذاتها؟

قد تحتوي العبارة أعلاه، والتي قدمها جون واتربوري في كتابه ”أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية”، على جزء من الإجابة، حيث يعتبر  الكاتب أن فكرة ”الفاسي” ليست مرتبطة بجزء جغرافي معين، ويضيف أنه ”لم يكن على المرء الإقامة بفاس حتى يحمل الذهنية الفاسية”. هذه الذهنية، بحسب الكاتب الأمريكي، انتقلت لمجموعة من الأوساط الحضرية في النهاية.

تقودنا استنتاجات واتربوري، إلى خلاصة مفادها أن النخبة الفاسية تشكل ”حالة ذهنية” معينة أكثر من كونها إحالة على مكان معين أو مدينة معينة. وقد يفسر هذا الاستنتاج، عدم استفادت مدينة فاس من إشعاع نخبتها خاصة على المستوى الاقتصادي، إذ شكلت ”الذهنية الاقتصادية”، بتعبير واتربوري، على سبيل المثال، ذهنية غير موجهة نحو المدينة الأصلية، بل نحو قطب اقتصادي قادر على احتضان هذه الذهنية، كدار البيضاء مثلا.

في النهاية، فقد تندرج إشكالية عدم استفادة الجهات والمدن من طاقتها ونخبها لصالح المركز ضمن إشكالية كبرى تتعلق بـ”مركزة القرار السياسي والإقتصادي”. هذه المعضلة التي يحاول المغرب حلها عبر دينامية الجهوية المتقدمة، ومحاولة جعل الجهات تتولى تسيير نفسها بشكل ذاتي من أجل تجاوز المركزية وانتظار التنمية من الخارج.

بلادنا24ياسر مكوار

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *