عبد الله ساعف.. عندما تتكلم السياسة من فم مغربي (بورتريه)

لطالما أنجبت لنا الساحة السياسية المغربية، شخصيات وقامات، بصمت بالخطوط العريضة على مسار متميز، لا يمكننا إلا الجلوس والتأمل فيه بتمعن. هي شخصيات كانت ولاتزال مثالاً يحتذى به في السياسة المغربية، إذ سواء شئنا أم أبينا، فقد ساهموا في إعادة تشكيل المشهد السياسي، وجعلوا منه ما هو عليه في الحاضر.

في هذا البورتريه، سنعود لنستذكر واحدة من أبرز الشخصيات السياسية التي ستظل خالدة في ذاكرة المغاربة، وهنا يتعلق الأمر بالوزير الأسبق، ورئيس مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، وأستاذ العلوم السياسية، عبد الله ساعف، الذي يعتبر قامة سياسية لا يمكن إغفال مسارها، الذي ساهم بشكل كبير في تشكيل “البورتريه” السياسي المغربي.

طعم البدايات

في مدينة القنيطرة ذات الجذور الضاربة في التراث الباذخ للحركة الوطنية، ولد عبد الله ساعف يوم التاسع عشر من شتنبر عام 1949، من أسرة متوسطة الحال. ترعرع في أرجاء المدينة، وبين دروببها العتيقة، قبل أن يباشر تمدرسه رفقة أقرانه بمدرسة قريبة من مسكنه.

“جمع العلم والتواضع مع رحابة الصدر كَحِمْيَة صوفية فعالة ضد ضغوط الشهرة والانتشار”، هكذا وصفه البعض من مقربيه، فيما قال البعض الآخر إن ساعف “عاش ليتعلّم ممن حوله أبجديات العلم والسياسة، ثم جلس على كرسي العلم لروي ظمأ الباحثين عن المعرفة”.

هذه الشهادات والعديد غيرها في حق “الموسوعي” عبد الله ساعف، لا تؤكد إلا شيئا واحداً، ألا وهو أنه من أبرز شخصيات الفعل السياسي والنقابي والعمل التطوعي بالمغرب.

المسار التعليمي

عبد الله ساعف، الرجل “الموسوعة”، زاوج في مساره الدراسي بين تخصصات عديدة، وحمل حبا لطلب العلم لم ينضب لليوم. وبالعودة لمسار “ابن القنيطرة”، فقد حصل ساعف على الإجازة في الفلسفة من جامعة باريس بفرنسا، الذي تخرج منها حاملاً حبا جما للفيلسوف أرسطو الذي لطالما استشهد به وبأقواله.

وبعد دراسته لأبجديات الفلسفة، اتجه عبد الله ساعف لدراسة القانون، حيث تخرج من كلية الحقوق بالرباط ( جامعة محمد الخامس حالياً) وبجعبته إجازة في القانون، وخبرة تضاهي السنين. قبل أن يقرر الرجل الموسوعي مزاوجة إجازتيه، ودراسة فلسفلة القانون، التي حصل فيها على شهادة الدراسات العليا عام 1978، ثم دبلوم الدراسات العليا في القانون العام عام 1979.

هذا، ولم يتوقف السياسي عند هذا الحد، إذ تحصل في نفس العام على دكتوراه الدولة في القانون العام، بأطروحة تم إعدادها في القانون الدولي العام تحت إشراف بول رويتر في جامعة باريس الثانية، حول “الالتزام بالتفاوض في القانون الدولي العام”. مسار حافل زاوج فيه ساعف بين القانون والفلسفة، قبل أن يقرر الاستقرار في علم السياسة، الذي وجد فيه نفسه، وأضحى من منظريه.

سياسي محنك ورجل دولة

بعد تخرجه، درس عبد الله ساعف في عدة جامعات، وشغل عدة مناصب إدارية أكاديمية، قبل أن يبين عن التزام سياسي بالغ الأثر في الحزب اليساري، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، الذي تأسس عام 1983، من خلال شغله عضوية لجنته المركزية لمدة طويلة، ومشاركته في كل المحطات التي مر بها الحزب، قبل الانشقاق عنه، وتأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي اندمج مع الاتحاد الاشتراكي، قبل سنوات عديدة.

ولعل تمرس “شيخ اليساريين” في السياسة وعلم المعرفة، أبرز ما ساهم في اختياره وزيرا منتدبا مكلفا بالتعليم الثانوي والتقني في حكومة التناوب، في عهد الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي في العام 1998، وهو منصب استمر فيه عام 2000، قبل أن يتم تعيينه وزيراً للتعليم حتى عام 2002 رفقة الحكومة ذاتها.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن خبرة ساعف السياسية والقانونية، خولت له عام 2011، ومباشرة بعد أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي” التي شهدتها بعض الدول العربية، أن ينتخب عضوا في اللجنة التي قامت بصياغة مراجعات الدستور. دون إغفال دوره الريادي كمؤسس للجمعية المغربية للعلوم السياسية، فضلاً عن عمله في وقت سابق عضوا بهيئة التدريس بجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية، وأستاذا فخريا للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، بالإضافة لكونه مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، ويدرس حالياً العلوم السياسية بالمعهد العالي للاعلام والاتصال بالرباط.

زواج بين السياسي والأكاديمي والروائي

“عبد الله ساعف ومن لا يعرفه”، الرجل الذي جمع بين مهمة الأكاديمي والسياسي والروائي، إذ قال عنه جامع بيضا، مدير مؤسسة أرشيف المغرب، إنَّ “المسؤوليات الكثيرة التي تحمّلها ساعف، وانخراطه الدائم في الخوض في القضايا الأساسية للمجتمع، جعلت منه مثقفا مناضلا، تحمّل مسؤوليته إزاء مجتمعه، كما أنّه آمن بأهمية الثقافة في إنارة درْب النضال، ولذلك عمِل دائما على توسيع أفُق معارفه، ونَهَل بنَهم من الكتب القانونية والفلسفية والسياسية، ما جعَله من أبرز المثقفين الموسوعيين في المغرب”.

ورغم أن عمره اليوم، ومع دخول العام الجديد، أقرب إلى 75 سنة، إلا أن ساعف لا يزال يملك روحا شابة، وبريقاً من عهدة شبابه، حيث على امتداد سنوات عمره، استطاع الوزير الاتحادي السابق أن ينقش اسما له رنينه الأكاديمي وكلمته الوازنة في العلوم السياسية والاجتماعية. جمع بين الخبرة في المجال الجمعوي والسياسي، فاختمرت عنده أفكار وممارسات طرحها كمورد فكري وعملي، وكمرجع يعود له السياسي أينما واجهته واحدة من أعتى العقبات.

ورغم التطرق لمسار ساعف الذي بصم فيه كمناضل يساري، مع التنظير في علم الاجتماع والحقوق والسياسة، إلا أنه لا يمكن إغفال دوره داخل حقول الأدب المتسعة في عالم الرواية والكتابة، إذ أن للسياسي المحنك، كتابات عديدة لا يمكن تجاوزها مرور الكرام.

وفي الجانب الأدبي، لدى ساعف عدة كتب بالعربية والفرنسية، فضلاً عن عدة مقالات نشرت له بمجموعة من الصحف والمجلات العالمية. ولعل أبرز ما يمكن أن نذكر من أعماله، “كتابات ماركسية حول المغرب (1985)”، و”صور سياسية من المغرب (1987)”، و”المعرفة والسياسة (1990)”، و”حوليات سنوات الجزر (1992)”، و”حكاية أنه ما (1994)”، و”التطلع إلى الدولة الحديثة (1999)”، و”الانتقال الديمقراطي (3 أجزاء)”.

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *