بورتريه | المهدي المنجرة .. “المنذر” الذي دق ناقوس المستقبل

يعتبر المهدي المنجرة من الرواد الأوائل في دراسة المستقبليات على ضوء معطيات الواقع وهو بهذا المعنى بحاثة نادر عز نظيره في هذا الزمن فتجربته العلمية والفلسفية ورؤاه الفكرية تركت بصماتها على كل من ولج هذا الباب “الدراسات المستقبلية” دراسة وبحثا فكأنهم ترجوا من تحت عباءته.

كما تعد مؤلفاته مرجعا أساسيا في ميادين الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية، وعلامة فارقة في السجل الثقافي المغربي والعربي.

 

لمحة سريعة

 

المهدي المنجرة من مواليد مدينة الرباط سنة  1933، درس في ثانوية ليوطي بالدار البيضاء  وهنا بدأ يتشكل وعيه السياسي وحسه الوطني إذ كان يلاحظ تصرفات غير بريئة من قبل الهيأة التعليمية  وذلك من خلال  استمالة مواقف الطلبة، وإغوائهم بالنقط المرتفعة شريطة إثبات رضاهم على وجود المستعمر الفرنسي  بالمغرب لكن  ثبات المنجرة على مواقفه الوطنية عرضه لمشاكل عدة جعلته في صدام دائم معهم بلغت إلى حد الفصل من الدراسة.

آثر والد المهدي إبعاده عن جو الصدامات وإرساله إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبها واصل تعليمه الثانوي، والتحق فيما بعد  بجامعة كورنل الامريكية لدراسة البيولوجيا، وعند قيام الحرب الكورية سنة 1950 استدعي للتجنيد في صفوف الجيش الأمريكي لكنه رفض بشدة لينمو داخله صداما وجدانيا هذه المرة مع كل ما يمت للعنف.

شغفه بالسياسية دفعه لمواصلة دراسته في بريطانيا التي اعتبرها محطة أساسية في حياته باعتبارها القبلة المفضلة للنخبة العربية التي أجبرتهم ظروف الحياة المختلفة للوفود إليها فمنحته كلية لندن للاقتصاد والعلوم  السياسية  دكتوراه في العلوم السياسية بعنوان ” الجامعة العربية البنية والتحديات.”

وإثر عودته من مدينة الضباب عينه الملك محمد الخامس مديرا عاما للإذاعة والتلفزة المغربية وفي العام نفسه من وفاة الملك توجه إلى باريس، ورغم أنها ساهمت في  توسيع مداركه إلا أنه حافظ على مسافة آمنة بينه وبين الثقافة الغربية المتدثرة بروح الاستعمار.

كما انضم إلى منظمة اليونسكو وعين مديرا لقسم افريقيا ثم عينه مدير اليونيسكو “روني ماهو” مديرا لديوانه عام 1962، ويعتبر عضوا مؤسسا في نادي روما لكنه سرعان ما تخلى عنها بحكم أن غايات الأمم المتحدة تتعارض و أفكاره، إذ انحرفت عن مسارها وهنا اعتنق المنجرة فكرة أننا أحرار بتبني ثقافىة مستقلة ،والاعتماد الذاتي انطلاقا من كوننا مسؤولين عن مستقبلنا دون الرضوخ لإرادة الآخرين، وهي كلها أفكار تنقض الفكر الغربي.

وبهذا الصدد يقول المهدي المنجرة في إحدى محاضراته ” ألفت كتابا عن الأمم المتحدة سنة 1973، وفي عام 1976 غادرت النظام ككل متخليا عن مستحقاتي ومعاشي، لأنني لاحظت أن القيم التي يبنى عليها نظام الامم المتحدة هي نفسها منظومة القيم المسيحية اليهودية. رغم أن  الإطار العالمي للثقافة والعلوم الاجتماعية كان تحت إمرتي وحاولت مواصلة العمل لكن وجدت نفسي وحيدا، وللأسف لم تكن العراقيل التي صادفتها من صنع الغرب بل من حكومات العالم الثالث، التي تحتمي بالغرب فهوسبب بقاءها ووجودها رهين به، وهذا ما سبقع في المستقبل.”

وكشف عن صميم رفضه بالقول ” فلت قبل عشرين عاما  أن نظام الأمم المتحدة انتهى لسبب واحد لأنه انحرف عن مقاصده، ولأنه انفصل عن مبدأ منظمة أممية تأخذ بيد الشعوب لتحقيق التحرر والاستقلال، بل انخرطت في استعمار جديد انطلاقا من الكونغو،وأكبر استعمار اليوم يوجد في الصومال، على غرار ما جرى في البوسنة والعراق.”

عرض عليه الملك الراحل الحسن الثاني تولي وزارة المالية لكنه آثر التفرغ لكتاباته وأبحاثه، كما تعرض للكثير من المضايقات بلغت حد المنع من إلقاء محاضراته، ليحط به الرحال لاحقا في اليابان.

 

المهدي المنجرة.. أنا لست عرافا

 

لا مراء أن المهدي المنجرة يمثل التفرد في عصر التشابه، والثورة في عصر السكون، إذ ملأ طباق الأرض فكرا وعلما بعد أن جاب العديد من دول العالم ليس بقصد الاستجمام، وإنما قصد إغناء مداركه، والانغماس في ثقافات الآخر، ليعود منتصرا في آخر المطاف وفي جعبته تجربة معرفية غنية ليهدي انتصاراته للإنسان الذي يعاني من حيف الإقصاء، والاستعلاء الغربي، فكان زاهدا في المناصب، والجوائز، وبقي ملازما ووفيا للكلمة الحرة العصية على التطويع، والتطبيع مع تحنيط الأفكار، فعلى الرغم من أن دراساته العليا كانت في الغرب إلا أنها لم تستطع أن تحكم ثقافة العالم الأول على مبادئه، فظل محافظا على مسافة نقدية بينهما وهو أمر جر عليه سيل من العداء، والجحود.

لا يمكن اختصار الكبار بمجرد كلمات، لكننا نحاول بسط مجموعة أفكار أطرت لمسيرة المنجرة وبصفته مفكر استشرافي، طرح تحليله للماضي والحاضر، بغية سبر آفاق المستقبل ولأخذ العبرة منه، من خلال الاهتمام بالبحث العلمي لبناء ثقافة مستقلة، والاعتماد الذاتي في التنمية.

ويختصر المنجرة  عمله بالقول ” أنا لست عرافا يتنبأ بالمستقبل، ما أقوله علم يدرس ويفنى له عمر بأكمله ويسافر من أجله المرء من أدنى الأرض إلى أقصاها، ويضع يديه على وثائق لا نجدها في جامعاتنا لأنه ليس لدينا أموال للانفاق على الكتب، لكن تحضر الأموال فقط للإنفاق على الحفلات.”

كان المنجرة من المفكرين العرب الرافضين للهيمنة الغربية البعيدة كل البعد عن قيم الديمقراطية بفرض حضارتها اللغوية والفكرية على بقية شعوب العالم، كما فضح الأنظمة المستبدة صنيعة الغرب لتكون المنفذ لمخططاته ومصالحه من خلال التركيز على سياسة الجمود وقمع الأصوات الحرة المناوئة لهيمنة الغرب وهي بذلك المسؤولة عن تخلف شعوبها.

وبهذا المعنى عبر المنجرة في إحدى محاضراته بالقول” طرد أطفال صغار في الفلبين رئيس دولة لأنه سارق ومقامر، لم تنفعه المدافع ولا القواعد الجوية الأمريكية، ولا المخابرات الأجنبية، ولا الموساد، أظن هذا هو المصير، ولو لدينا حكومات ورؤساء دول يتحلون بالمسؤولية وعلاقة وانسجام مع شعوبهم، لفكروا من الآن في إيجاد وسائل أخرى بدل التذرع بالاستقرار لأن التغيير سيقع، وكلما تأخرت القفزة النوعية في التغيير ترتفع الفاتورة مثل العملية الجراحية لكن لا احد سيفلت من أدائها.”

كان الراحل دائما يوضح ان الاستعمار الجديد التي تشنه الثقافات المهيمنة أعتى وأشد من الاستعمار التقليدي وكان ينذر من مغبة التقليد الأعمى للنمط الوحيد من التفكير الذي يهدد الحضارات.

يقول المهدي “إن المصدر الأساسي للصدام في العالم الحديث ليس إيديولجيا ولا اقتصاديا وإنما سيكون أهم خط انقسام، وأهم سبب للمواجهة حضاريا، فالشعوب أدركت ذلك الأمر وهي مستعدة للدفاع عن نفسها بأي وسيلة حتى إن ألصق بها صفة التطرف.”

المنجرة كان يتنبأ بأن إرادة الغرب كانت تنحو إلى تحويل الخلافات الناشبة بين الشمال والجنوب إلى صراع بين الأديان وذلك من خلال خلق توتر بين الإسلام والغرب المسيحي اليهودي، إذ استشرف أحداثا عالمية وقعت بالفعل كانت من بينها حرب الخليج والتي سماها في كتابه “الحرب الحضارية الأولى”، كما ستظهر فيما بعد  في كتاب صموئيل هنتغتون “صدام الحضارات” باعتراف الأخير بقصب السبق للمنجرة بطرح مفهوم صراع الحضارات، لكن مع وجود فارق مهم بينهما ينطلق أساسا من كون المنجرة بصفته عالم مستقبليات يتحدث من منطلق الحرص على خلق حوار حضاري يعزز من خلاله القيم الإنسانية من عدل وسلام وأمن لتفادي الصدامات، بينما هنتغتون يعتمد على التهويل لتأجيج الخطر الآت من الإسلام خاصة باعتباره صداميا بحسب رأيه، فالصراع وفق خطابه مبرر لمواجهة الخطر المحدق بالحضارة الغربية.

دفعت توقعاته التي أبانت على عقل راجح، وبعد نظر، ورؤية ثاقبة لما ستجره أذيال الاستبداد، والقمع، والغطرسة الغربية  الأقل حضارة على شعوب العالم الثالث الأعرق حضارة، دفعت بالوزير الفرنسي ميشال جوبيير إلى أن يطلق على المنجرة وصف “المنذر بآلام العالم”.

 

المنجرة والفرنكوفونية..خطان متوازيان

 

على خلاف معظم النخبة المثقفة بالمغرب الذين نهلوا من الثقافة الفرنكوفونية وتخرجوا من جامعاتها، كانت ثقافة عالم المستقبليات انجلوساكسونية، وكان ينظر إلى الثقافة الفرنكفونية باعتبارها مرحلة جديدة للهيمنة الغربية على المغرب العربي، فالفرنكوفونية في نظر المنجرة لا يمكن فصلها عن سياقها التاريخي المرتبط وراثيا بمرحلة الاستعمار، ومرحلة تصفية الاستعمار فهو ينظر إليه كمفهوم سياسي يكتسي طابعا استعماريا جديدا ووسيلة لمحاربة اللغات الوطنية واللغات الأم.

يقول المنجرة في كتابه الحرب الحضارية الأولى ” هذه الحركة الفرانكوفونية التي يزعم انها تستهدف في جوهرها تحقيق تقارب بين الناس، خلقت في الواقع حاجز بين من يستعملون اللغة الفرنسية ويساهمون في الثقافة الفرنسية، وهم فرنسيون يتوفرون على جواز سفر فرنسي يحمل علامة الانتماء إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية اليوم وبين الآخرين الذين هم مجرد فرانكوفونيين تمنح لهم تارة جائزة الفونكور وتارة اخرى جائزة فيمينا..انظروا إلى هذا التسامح الفكري الذي يحعلنا نقبلهم بيننا إنهم جديرون بالتكريم ولكن حذار، إنهم ليسوا كتابا فرنسيين، فالكاتب الفرنسي هو كاتب فرنسي وكل كاتب آخر غير فرنسي هو كاتب فرانكوفوني .”

يتحدد موقف المنجرة من الفراكوفونية انطلاقا لما سبق من منطق رافض لاستعمال التعاون الثقافي خارج نطاق الحضارة والفكر، بل مجرد استغلال للدول التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، والنيل من لغاتهم الام، معتبرا أن المغرب بصفته واحدا من بين البلدان التي أحكمت فرنسا قبضتها عليه يواجه استعمارا ثقافيا وحضاريا، بوجود نخبة معينة درست في فرنسا وهي من تستلم زمام القرار.

 

إنجازات وجوائز

 

رغم ان المهدي المنجرة درس في الغرب ويجيد التحدث بلسانه إلا أن عمقه ووجدانه مع العالم الثالث، مع الجنوب ضد استغلال الشمال فقد منح جائزة التواصل الثقافي شمال- جنوب للطفل محمد الذرة وللمصور الذي صورت عدسته مشهد الاستشهاد، وخصص جزءا من حصيلة بيع كتبه وحقوق التأليف لجوائز خاصة بالعالم الثالث.

وعرفانا بنبوغه عن البحث الذي أعده المستشرف المغربي عن أهمية النموذج الياباني بالنسبة إلى دول العالم الثالث قام الإمبراطور الياباني آنذاك بمنح المنجرة عام 1986 الوسام الوطني “الشمس المشرقة”، كما شرعت الأبواب أمامه لعمادة بعض الجامعات اليابانية في تسعينيات القرن المنصرم، فاعتبرت فرصة سانحة للغوص أكثر في عمق الثقافة اليابانية.

حصل كذلك على جائزة الحياة الاقتصادية في العام 1982، والميدالية الكبرى للاكاديمية الفرنسية للمعمار عام 1984، ثم قلادة الفنون والآداب من فرنسا سنة 1985، كما حاز على ميدالية السلام العالمية لألبرت انشتاين، والجائزة الفدرالية الدولية للدراسات المستقبلية عام 1991.

وقدم المنجرة العديد من المؤلفات النيرة، والمتنورة، والتي ترجمت للعديد من اللغات الأجنبية  ومن أشهرها “الحرب الحضارية الأولى”، و”الإهانة في عهد الميغا إمبرالية”، و”عولمة العولمة”، و”انتفاضات في زمن الذلقراطية”، و”قيمة القيم”، و”حوار التواصل”.

في يوم 13 من يونيو 2014 وارى جسده التراب بمدينة الرباط عن عمر ناهز 81 عاما، وكانت وصيته الأخيرة قبل وفاته التبرع بخزانته لفائدة المكتبة الوطنية وهي مكونة من 6000 كتاب و880 مجلة دولية و770 من مقتطقات الصحف الوطنية والعالمية، ليظل فكره مؤبدا كما ذكراه في وجدان المغاربة والعالم أجمع.

بلادنا24 – مريم الأحمد

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *