لا يزال التاريخ يحفظ في صفحاته حتى اليوم ، ذلك الشاب الطنجاوي الهادئ و المعارض ، الذي كان يحب وطنه حبا طاهرا بلا أغراض و لا غايات ، اليوسفي الذي ظفر برضى المغفور له الحسن الثاني ، و الذي أصبح فيما بعد أحد أشهر وجوه التاريخ السياسي الراهن بالمغرب .
من حي الدْرداب بطنجة إلى مراكش
ولد عبد الرحمان اليوسفي في الثامن من مارس سنة 1924 بحي الدْرادب بضواحي مدينة طنجة ، والداه أحمد اليوسفي و الحاجة فاطمة الفحصي ، حصل على شهادة الابتدائية سنة 1936 ، و انتقل إلى مدينة مراكش ليُتابع دراسته في المرحلة الثانوية ، و احتجاجاً منه رفقة بعض من زملائه في الثانوية بمراكش على قرار صادر من المراقب العام المتسم بالظلم ، صادفت هذه المرحلة مساهمته في تنظيم أول إضراب في حياته .
من العاصمة الرباط إلى باريس
و بعد نجاحه في السنة الأولى من الثانوية ، انتقل اليوسفي إلى العاصمة الرباط لمتابعة دراسته في ثانوية مولاي يوسف ، 3 سنوات بعد ذلك حاز على شهادة الباكالوريا ، حيث اشتغل في مهنة التعليم في المدارس الحرة ، و بعد ذلك التحق بكلية الحقوق و درس السنة الأولى ، و سافر إلى فرنسا في السنة الأخيرة من الدراسة في الكلية ، فحصل على الإجازة في القانون ، و على دبلوم الدراسات العليا في العلوم السياسية و دبلوم المعهد الدولي لحقوق الانسان .
سجن لعلو بالرباط
و في 1943 ، انخرط في العمل السياسي و النضالي ، و شارك في إدارة و تنظيم حركة المقاومة و جيش التحرير من 1953 إلى 1956 ، و تحمل اليوسفي مسؤولية رئاسة تحرير جريدة التحرير الصادرة عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ، و في يوم 14 دجنبر 1959 حجزت السلطات المغربية على هذه الجريدة و منع توزيعها بسبب افتتاحية ، اعتقل على إثرها الفقيه محمد البصري باعتباره مدير جريدة التحرير ، و إلى جانبه عبد الرحمان اليوسفي كرئيس تحريرها ، ليُنقلا إلى سجن لعلو بالرباط.
و حسب مذكرات “أحاديث فيما جرى” لكاتبها المحامي و السياسي و الحقوقي ، مبارك بودرقة ، فإن هذا الاعتقال كان مبنيا على أساس رسالة وجهها وزير العدل و الأمين العام للحكومة ، السيد محمد باحنيني إلى قاضي التحقيق ، السيد الحداوي ، حيث وجهت إليهم تهم متعلقة بالإخلال بالأمن العام و التحريض على العنف .
اضراب عن الطعام في أول يوم اعتقال
و احتجاجاً منه على هذا الاعتقال ، دخل اليوسفي في إضراب عن الطعام في أول يوم اعتقال ، و قال في مذكراته أيضا ، إنه استغل وضعه الصحي بسبب استئصال رئته اليمنى خلال عمليتين جراحيتين بمدريد ، الشيء الذي ساهم في تدهور حالته ، ليحدث استنفار إدارة السجن من هذا الإضراب ، و بعد مرور 15 يوما من الاعتقال أُطلق سراحه.
و اعتقل اليوسفي سنة 1963 مع جميع أعضاء اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد الوطني بتهمة التآمر ،و صدر في حقه حكم بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ ، و استفاد من العفو الملكي سنة 1965 ، فتوجه إلى باريس في نفس السنة ، من أجل الإدلاء بشهادته كطرف مدني في محاكمة مختطفي المهدي بن بركة ، ليبقى في فرنسا 15 سنة ، و ليحكم عليه غيابيا في جلسات محاكم مراكش ، حيث طالب المدعي العام بإصدار حكم عليه بالإعدام ، وصدر حكم العفو عنه في العشرين من غشت عام 1980 ، فعاد إلى المغرب في أكتوبر من نفس السنة .
مناصب قيادية
و من عام 1969 إلى 1990 ، تولّى منصب الأمين العام المساعد لإتحاد المحامين العرب ، يؤكد في “أحاديث فيما جرى” أن إدخال حقوق الإنسان و الديمقراطية داخل المجتمعات العربية يعود الفضل في هذا لاتحاد المحامين العرب . و اختير عبد الرحمن اليوسفي مندوبا دائما لحزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الخارج منذ تأسيسه عام 1975 ، و عضوا في مكتبه السياسي منذ مؤتمره الثالث عام 1978 ، و انتخب كاتبا عاما للحزب بعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد في 8 يناير 1992 .
احتجاج فاستقالة
و احتجاجا منه على نتائج الانتخابات التشريعية يوم 19 شتنبر 1993 ، استقال عبد الرحمن اليوسفي من وظائفه السياسية ، ليرسل الملك الراحل الحسن الثاني مستشاره ، السيد محمد عواد ، لإقناعه بالعدول عن هذا القرار ، إتجه إلى فرنسا في نفس السنة ، ليتقلد منصب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي بعد عودته إلى البلاد عام 1995 .
مهمة قيادة حكومة التناوب
و في يوم الأربعاء 4 فبراير 1998 ، استقبل المغفور له الحسن الثاني عبد الرحمان اليوسفي ، بالقصر الملكي بالرباط ، ليعينه وزيرا اولاً ، ليتقلد مهمة قيادة حكومة التناوب التوافقي التي كانت مرحلة هامة في رحلة الاصلاح ، و في هذا الخصوص ، يذكر عبد الرحمان اليوسفي في مذكراته ما قاله له الحسن الثاني رحمه الله ، « إنني أقدر فيك كفاءتك و إخلاصك ، و أعرف جيدا منذ الاستقلال أنك لا تركض وراء المناصب بل تنفر منها باستمرار ، و لكنننا مقبلون جميعا على مرحلة تتطلب منا الكثير من الجهد و العطاء من أجل الدفع ببلادنا إلى الأمام ، حتى نكون مستعدين لولوج القرن الواحد و العشرين » ،
استقالة اخرى
وبعد ست سنوات من توليه هذه المهمة ، و بالضبط في أكتوبر عام 2003 ، أعلن الراحل اليوسفي اعتزاله العمل السياسي بصفة نهائية ، و قدم استقالته من حزب الاتحاد الاشتراكي .
رحيل اليوسفي
وصادف التاسع من ماي 2020 وفاة أحد أهم أعمدة العمل السياسي ،حيث فقد المغرب مناضلا شامخا بنزاهته ، و مدافعا شرسا عن مبدأ الديمقراطية و حقوق الإنسان ، بإرادته القوية التي لا تعرف التراجع في سبيل الإصلاح ، تاركاً أثره الجليل في خدمة الوطن ، و ملقناً المغاربة أسمى دروس الوطنية الشريفة ، لتفقد الدولة المغربية أحد رجالاتها الاستثنائيين .