بورتريه | عبدالله كنون “النبوغ المغربي” في رجل واحد

تعددت بيئات الأدب وتنوعت مصادره على صعيد الكتابة والإبداع، ولكل بيئة خصوصيتها الدالة عليه والناطقة بهويته، وقضاياه ومظاهره، ولعل خصوصية الأدب المغربي تتجلى في قضاياه الدينية، والوطنية، لا سّيما في فترة ما بين الحربين العالميتين، وكان من حصيلة هذا التفاعل الدعوى إلى محاربة المستعمر وإبراز الدور النضالي في الكفاح ضد الاستعمار، وكان من الطبيعي أن يقف الأدباء المغاربة شعراء وكتاب للدفاع عن حريتهم وثقافتهم المناوئة لسياسة المستعمر وثقافته ولغته.
وقد شاءت الظروف أن يكون عبد الله كنون الأديب الموسوعة أحد هؤلاء الأدباء المرموقين الذين قدموا الأدب المغربي بحلة جديدة أسماها فيما بعد ” النبوغ المغربي” ليس ردا على الثقافة العربية وإنما استكمالا لوجوهها المتعددة فكان النبوغ المغربي رسالة مغربية إلى المشرق العربي قصد التقديم، والتمهيد، والتعريف بهذا النبوغ بجميع صوره وأشكاله الأدبية.

نزوح إلى الشمال

شهد المغرب عام 1908 ولادة العلامة الكبير عبد الله كنون بمدينة فاس، وبقي فيها إلى أن جثم الاستعمار الفرنسي على أرض المغرب، ورحلت العائلة عن فاس العالمة مفضلة الرحيل القسري عن الرضوخ لحكم المستعمر موجهين بوصلتهم نحو عروس الشمال.
كان التقليد السائد أن المسلمين لا يتساكنون مع الكفار، وهو ما دفع بالكثير من العلماء أن حزموا أمتعتهم عنوة نحو الشام والجزيرة العربية، والبعض الآخر ومنها عائلة العلامة كنون هاجروا إلى طنجة سنة 1913.
تفتقت عيناه في “مدينة البوغاز” فكان لها الأثر البالغ في تشكل وعيه، فتواجده في منطقة دولية منفتحة على لغات وثقافات وعادات مستوردة من الغرب المدجج بقيم الحداثة تارة والهيمنة تارة أخرى لم يكن بالأمر العادي مطلع القرن العشرين، فكان الرهان ينصب في المحافظة على الهوية والثقافة المغربية الأصيلة التي ساهمت أسرة كنون مع العديد من الأسر الأخرى في تعزيزها وبقائها.
ولتعزيز هذه الهوية كان التعليم من بين إحدى أهم الركائز التي شغلت بال والده ” عبد الصمد كنون”، وهو يفكر في مستقبل ولده وغيره من أولاد المدينة من الذين نشؤوا في عهد الحماية التي لم تكن توفر جهدا لمس الهوية، وضرب جذورها من خلال التعليم كأهم ركائزها، فورث العلم عن والده وبعض المشايخ.
حفظ القرآن الكريم ثم انتقل إلى قراءة العلوم الشرعية والدينية واللغوية، كما تلقى علومه في النظام التربوي التقليدي السائد في تلك المرحلة وهو “المسيد”، لكنه فطن إلى ضرورة تتويع مصادر معارفه، دون الوقوف وحيدا على أعتاب العلوم التقليدية والتعمق في قراءة الكتب والمجلات والجرائد المشرقية والغربية والتزود منها علما وثقافة.

بداية الكتابة

حمل عبد الله كنون قلم الكتابة مبكرا وكان شاهدا على نبوغه الأدبي، إذ بدأ ينشر كتاباته الأدبية في جريدة إظهار الحق سنة 1927، وتميزت قصائدة بنفحات ثورية ووطنية يعتمل لها النفس الغيورة على الوطن وتثور لها، فكان الشعراء آنذاك التي يمجدون الوطن في قصائدهم جزءا لا يتجزأ من الحركة الوطنية.
فحمل شعره دعوة صريحة لإصلاح التعليم، والتحفيز على الإبداع كي يظل الشاعر صوتا حيا لشعبه ووطنه لا تخفته جبروت المحتل، ولم تكن الدعوة إلى التحرير الوطني فقط ما كان ينادي به، بل أيضا قاد ثورة تحريرية ضد الشعر الكلاسيكي، فأبدع في مجال الشعر الحر واختلق مسارات شعرية حديثه انطلاقا من الشكل والمضمون متأثرا بالمدارس الشعرية المنبثقة من المشرق العربي.
وعي عبد الله كنون آنذاك والذي من جيله أن لا إصلاح دون استقلال، وأن أي عملية فصل بين السياسي والثقافي ستعود نتائجها بالوبال على البلاد، فكانت الثقافة آنذاك جنديا في صفوف المقاومين، فلا حديث عن مشروع حداثة دون الرقي بالمعرفة والثقافة.
احتكمت كتابات كنون في الدفاع عن الذات الفردية والجماعية، والقيم المجتمعية الأصيلة المحافظة، فنشر في مجلة السلام العديد منها رغم أنها عملية شاقة في زمن الاستعمار، فكان يطلب من صديقه “محمد داود” الأديب والمؤرخ التكفل بعملية الإشراف على أعمال الطبع وملاحقة أخطائها.

النبوغ المغربي

يجسد عبد الله كنون في صورته وهيأته الفقيه والسلفي لكن في فكره وأدبه يمثل صورة الرجل المنفتح المعتدل، ففي مستهل القرن العشرين كانت السلفية بالمغرب تشكل رؤية وطنية وبعدا دينيا قائما على قيم الانفتاح، والحداثة، للنهوض بالأمة التي تكافح الاستعمار ومظاهر التخلف.
فكان النبوغ المغربي الذي أصدره في مدينة تطوان رؤية تجسيدية واقعية على نبوغه أولا، وعلى التعبير عن روحه الوطنية ليس انطلاقا من مقاييس سياسية وإنما ثقافية وفكرية، تضاف إلى محصلة الأفكار السائدة آنذاك، وبذلك يشكل النبوغ المغربي لبنة إضافية في صرح الثقافة العربية آنذاك.
وقد كان الدافع الوطني إلى تاليف هذا الكتاب التعريف بالثقافة المغربية، والادب المغربي، وتقديمه إلى القراء المشارقة خاصة نظرا لعدم التواصل الفكري والثقافي بين المشرق والمغرب بشكل كبير، مما جعل كتاب النبوغ المغربي رسالة تعريف قصد الاضطلاع على المنابع الفكرية، والثقافية، التي يمتاز بها المغرب في بعض خصوصياته الأدبية فيما بعد.
كان النبوغ المغربي امتداد حي لأبحاثه وكتاباته المنشورة في جرائد مغربية منذ حداثة سنه في مجلة إظهار الحق والسلام والمغرب الجديد وغيرها، وشكل حدثا وطنيا شغل المغاربة بجميع مكوناته الثقافية والوطنية والشعبية، الشيء الذي جعل المستعمر الفرنسي يمنع تداوله.
لم يقف النبوغ المغربي إلى حد اعتباره حدثا وطنيا ينتصر للكلمة الحرة، ولتاريخ المغرب المشرق، وإنما أيضا انتصارا للروح الأدبية للمغرب العربي انطلاقا من اعتمال شعور الجور داخله المتجسد في إقصاء المشرق العربي للتجربة الأدبية بالمغرب، وقطع على نفسه خوض معارك الانتصار لتاريخ الأدب بالمغرب إذ جاء في مقدمة كتابه” وقد كثر عتب الادبا في المغرب على إخوانهم في المشرق لتجاهلهم إياهم، وإنكار كثير من مزاياهم، ولكن أعظم اللوم في هذا مردود على اولئك الذين ضيعوا انفسهم وأهملوا ماضيهم، وحاضرهم وحتى اوقعوا الغير في الجهل بهم والتقول عليهم، وهو معذور وحسبه أنه لم يقصر تقصريهم بل سعى فأخفق ولا عيب على من بلغ جهده، ونحن نعتقد أننا بتقديم هذا الأثر الضئيل إلى الدوائر العلمية سنزيل كثيرا من التوهم والتظنن في تاريخ المغرب الأدبي، وسنرفع حجاب الخفاء عن جانب مهم من الحياة الفكرية لأهل هذا القطر وسوف ينقضي تجني إخواننا من بحاث الشرق على آثارنا وتحاملهم على آدابنا لأن ذلك لم يكن منهم عن عمد وسوء قصد وإنما هو ارتياء واجتهاد”.
لكن أصداء الكتاب حملت أثرا طيبا واستحسانا بالغا وافد من المشرق العربي، و1لك من خلال ما كتبه الأمير شكيب أرسلان الذي كانت تربطه بعبد الله كنون علاقة متينة، فعرض ما سجله من إشادة وإعجاب في جريدة “الوحدة المغربية” الصادرة في مدينة تطوان.

العالم والأديب

وشغل “كنون” العديد من المناصب التعليمية من بينها مدير المعهد الخليفي، وكذا أستاذا بالمعهد العالي بكلية أصول الدين بتطوان، وبعد نفي الملك محمد الخامس في 20 غشت 1953، بدأت تظهر معالم الحكومة الجديدة التي نصب فيها عبدالله كنون وزيرا للعدل، لكن بمجرد عودة الملك من منفاه قدم استقالته من الحكومة الخليفية، كما عين محافظ على مدينة طنجة سنة 1957، لكنه ارتأى أن ليصب جام انشغالاته على علمه، فكان عالما على مسافة محايدة من السلطة، فأسس بداية الستينيات رابطة علماء المغرب، اصطفت في موقع المعارضة لتعزيز الدور الحقيقي للعلماء بتقويم الاعوجاج، وتقديم النصح والإرشاد، كما أنشئت صحيفة ” الميثاق” التابعة للرابطة والتي أزعجت السلطة لما ضمت افتتاحياتها من مواكبة للأحداث الوطنية.
الإنتاج الأدبي لعبدالله كنون كان غزيرا، لكن النبوغ المغربي يعد الأهم حتى ذهب البعض في القول ” لو لم يكتب كنون سوى النبوغ المغربي لكفاه ذلك فخرا ومجدا”، لكنه أثرى الحقل الثقافي بالمغرب الكثير من المؤلفات الجامعة للأدب والسياسة والثقافة وهي جميعها تنصب في خدمة الإسلام، وتبيان الزخم الفكري والأدبي المغربي الذي ظل مهمشا لعقود من الزمن.
ونذكر على سبيل المثال بعضا منها في مجال الدعوة كتاب ” فضيحة المبشرين في احتجاجهم على القرآن الكريم”، وكتاب ” الرد القرآني على كتيب: هل يمكن الاعتقاد بالقرأن”، بالإضافة إلى “إسلام رائد” وغيرها التي تتناول الدعوة الإسلامية، كما الف من بينها “مدخل في تاريخ المغرب”، و”معارك” وغيرها الكثير، وللأديب نصيب وافر منها أيضا ” ذكريات مشاهير رجال المغرب”، و” أمراؤنا الشعراء”، و”لوحات شعرية” وما ذكر مجرد غيض من فيض الأعمال الوازنة والكثيرة للشيخ العلامة عبد الله كنون.
قبل رحيله بخمس سنوات أهدى مكتبته الزاخرة بالكثير من النوادر والتحف الأدبية والثقافية إلى مدينة طنجة، فأسست مكتبة عمومية باتت قبلة يرتادها كل متعطش للأدب، والفكر، والإبداع، وفي 9 من يوليو 1989 رحل عن عالمنا ولكنه لم يرحل منا ما بقي الأثر.

بلادنا24 – مريم الأحمد

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *