تقرير : “التويزة” عرف أمازيغي يعكس روح الجماعة المتضامنة

لا يخلو أي بلد من عادات وتقاليد، أو مواضعات اجتماعية تعارف عليها الناس، وتشبتوا بها في حياتهم وفقا لما دعا إليه العرف والعادة، وهذه الأعراف شكل من أشكال التضامن الإنساني، والتكافل الاجتماعي لاسيما وقت الشدة، بل حتى وقت الرخاء، وفي جميع الميادين التي تدعو إلى التكاتف والتعاضد بين أفراد المجتمع.

وحمل هذا المفهوم “تِيويسي” بحسب ما فسره مبارك آيت عدي أستاذ باحث في المعهد الملكي للأمازيغية، وأحد المنحدرين من إقليم طاطا الذي يمتاز بالمحافظة على العادات والتقاليد العريقة  في حديثه مع “بلادنا 24″، فالتيويسي مصطلح أمازيغي مشتق من كلمة إِوْسْ أو يُوْسْ والتي تعني “أعان”، ثم اكتسبت معنى اصطلاحيا للدلالة على العمل الجماعي والمساعدة في إنجاز عمل ما يشترك فيه الجميع بكل طواعية والتزام.

تحول المصطلح من تِيويسي لتيويزي، وهي جميعها تسير في الاتجاه نفسه الدال على التضامن، والعمل الإنساني، وتقديم الخدمات للآخرين قصد إسداء خدمة، وهي تخص البالغين الراشدين الذين يهبون جمبعا للقيام بعمل يقع تحت مفهوم “التويزة”.

لم يعد مفهومها مقتصرا على الأمازيغ بالمغرب بحسب آيت عدي، بل تعدى ذلك لكي يشمل منطقة واسعة يشترك فيها العرب والأمازيغ في المغرب، والجزائر، وغيرها.

كما لا يمكن تحديد بداية  ظهور”التويزة” لقدمها المتوارث عبر الأجيال، فهي مرتبطة بحاجة الإنسان إلى أخيه الإنسان، وبحاجة القبيلة إلى القبيلة، وبحاجة الجماعة إلى الجماعة بروح تلفها الإنسانية، وأخوة العمل المشترك والتي تجعل من هذا العرف الاجتماعي الأصيل عرسا قبليا أو وطنيا بحسب العصر الذي تمثله.

بهذا المعنى، يضيف ايت عدي تصبح “التويزة” تطوعا جماعيا تفرضه حاجة الإنسان الأمازيغي إلى خدمة  المرافق العامة أو الخاصة، وإلى العمل الجماعي قصد إنجاز عمل يتعذر على الفرد القيام به بمفرده.

وتعددت وتنوعت صور التويزة يتابع المتحدث نفسه، فمن موسم الفلاحة إلى الزراعة، إلى شق واصلاح الطرق، إلى إنشاء الجسور، إلى جني الزيتون، إلى حفر الآبار، كما تشمل المرفق الدينية ، مثل بناء المساجد والمدارس العتيقة، بل إطعام طلبة المدارس العتيقة على مدار العام، فكل أسرة تتطوع لتلبية حاجات إطعام الطالب والفقيه، وتأمين المبيت لهم.

ومن الممارسات القريبة من التويزة ما يعرف بـ”الوزيعة” وهي ضرب من ضروب التكافل الاجتماعي وفقا لآيت عدي،  وذلك عندما تكون بقرة أحد أفراد القبيلة مهددة بموت محتوم، يتم انقاذها ودبحها ، فتجتمع القبيلة لكي تتوزع لحم البقرة لقاء مبلغ مالي يساهم في تخفيف المعاناة وتعويض الرجل عما خسر، وهي تقاليد يتسم بها الجنوب المغربي ولها حضور يرى ويشاهد في الحواضر المعاصرة قائلا “هدي تويزة في الوزيعة”.

كل ذلك يجعل من “التويزة” عملا وطنيا بالمفهوم الواسع، وقد استفاد المستعمر من هذه العملية خاصة في شق الطرق، وإنشاء جسور، لتأمين القوافل العسكرية آنذاك، كما تنشأ التويزة لأسباب شخصية بطلب من الشخص المحتاج، وقد ترتئي الجماعة أو القبيلة هذه التويزة حرصا على الفائدة العامة لكل الأفراد.

ويقول مبارك آيت عدي “يمكن تقسيم التويزة إلى قسمين، قسم يقوم به الرجال، وآخر تقوم به النساء، وكل في مجال عمله، بحسب القدرة والاستطاعة في إنجاز ما يمكن إنجازه، فالرجال يقومون بالتويزة المتعلقة بالأعمال الشاقة، والنساء ينصرفن إلى الأعمال السهلة في نطاق المجموعة، مما يقسم العمل ليسهل تحقيقه في أسرع الأوقات”.

إن التويزة برنامج عملي وفق مراحل تحددها القبيلة ويستخدم في هذا البرنامج، جميع الأدوات المادية، والمعنوية لكي تكون النتيجة أو المحصلة في نهاية المطاف فائدة للجميع.

ومما يرافق عملية التويزة ترديد المشاركين لمجموعة من الأذكار والأشعار الحماسية، كما هو الأمر بالنسبة للتويزة التي  تكون خلال الاستعداد للزواج وتسمى بالامازيغية”تزرارت” او اسريرن، ترددها الفتيات  أو النساء فيما بينهن ، أو بين الرجال والنساء، وهي تراث شفهي غني يستحق الجمع والتدوين,

الملاحظ أن التويزة لم تعد كما كانت في السابق كما صرح ايت عدي محددة في مجالات معينة، ولكن طرأ عليها بعض التغيير في المفهوم والعمل، فإن كانت في الماضي تقوم على مبدأ الخدمات الذاتية أو الجماعية أو بالمجهود العضلي ، باتت اليوم تقوم على مبدأ الدعم المالي الذي يوفر أسباب نجاح  واستمرار”تيويزي” بحسب التحولات الراهنة.

وتتجلى أهداف التويزة في كثير من الوجوه التي أنجزت من أجلها، فالتضامن القبلي، والعمل الجماعي شكل من أشكال الاتحاد والتلاحم في وجه الظروف القاهرة والمشكلات المستعصية على الحل، فيكون العمل الجماعي  هو السلاح الفعال في تفتيت المشكلات المستعصية، وتحييدها عن طريق القبيلة، أو الجماعة، أو الحي، وبذلك كانت هذه الأهداف أهدافا انسانية نبيلة بالدرجة الأولى لأنها تعنى بالإنسان، وقضاياه الاجتماعية.

يستطرد ايت عدي قائلا ” لا يمكن لكل فرد أن يشذ عن قاعدة التويزة من حيث الانضمام، وإنجاز الأعمال، وإن حدث ذلك فعليه بما يسمى بالإنصاف، وهي تأدية غرامة للقبيلة، أو أن يسخر رجلا آخر يقوم مقامه في العمل والإنجاز، وهو الذي يتكفل بمصاريفه المادية كاملة، وفي هذا تجسيد لروح التضامن، والالتزام، وقد تختلف طبيعة وتسييرها من منطقة لأخرى تبعا للحالة الطبيعية في تلك المناطق، وتبعا للحاجات الداعية إليها”.

وارتبطت التويزة أيضا بفترة الاستعمار كما أشار إلى ذلك ايت عدي بقوله” لقد فرض المستعمر على المواطنين القيام بإصلاح الطرق وربطها ببعضها خدمة لسياسته الاستعمارية، ولكن بقوة السلاح، وهذا ينفي البعد التطوعي عنها، بقدر ما يوحي بسياسة الجبر والإكراه لدى المستعمرين”.

وتابع حديثه بالقول” أيضا يمكن اعتبار الغرامة التي يؤديها الفرد عند امتناعه عن القيام بالتويزة شكل من أشكال الإجبار غير المباشر، وقد يتطور إلى زجه في السجن أو ما يعرف بـ”القوصيني” ليوم أو يومين أيام الاستعمار، وذلك لكي تبقى التويزة عامل توحيد وليس عامل تفريق بين الجماعات والقبائل على الخصوص”.

ولدى سؤالنا عن حضور وديمومة التويزة في هذا العصر رد المتحدث نفسه قائلا ” لم تمت هذه العادة، ولم يندثر هذا العرف، ولكنه تغير بمفاهيمه بحسب الواقع الراهن، فالأسباب الدعية إليها “التويزة” قديما، لم يعد جلها الآن موجودا بتأثير العامل الحضاري الذي زاد اقترابا وتفاعلا، واتخذ منحى آخر عبر المؤسسات، ودور الشباب، والجمعيات التي أخذت على عاتقها القيام بما يشبه الأدوار السابقة”.

وواصل حديثه ” لكن تبقى التويزة كمؤشر أولي على بذور التضامن والتعاطق الإنساني الذي ظهر تلقائيا في فترة من الفترات، وظل مستمرا إلى عقود طويلة، إلى أن تجسد بصورة معاصرة، كما أشرنا”.

وضرب مبارك مثلا على التويزة الاجتماعية بالأعراس، حيث يتظافر الجميع لمساعدة أهل العرس في تقسيم ما ينبغي القيام به من أعمال، وإنجازات كأن تحضر النساء الحطب لإعداد الطعام، واستجلاب المياه، وتنقية الزرع، وتقديم الطحين للأسر لكي يأتوا بالخبز فرادى أو جماعات، وقد يصاحب هذا بكثير من الأهازيج الشعبية والفلكلور الذي تتميز به كل منطقة عن الأخرى.

وأردف قائلا “هذا ما يكون في الأفراح، كما هو الشأن في الأتراح، وكل هذه المعطيات تسجل وتدون في خانة صاحبها كالتزام مستقبلي يؤديه للآخرين أسوة بما قدموه له”.

هذا في التويزة الإجتماعية، وأما في التويزة الدينية يردف المتحدث ذاته، يلتقي الشرع مع العرف، حيث تتبنى القبيلة مدرسة دينية وتخصص لها ” تَوَلاَ” أي بالتناوب ما يؤمن حاجات الفقيه المشارط من الطعام، وتقديم كافة المستلزمات المادية من إنتاج الزرع، والضرع لتلك المدرسة عن طريق ممثل عن القبيلة.

التويزة مشروع وطني آنذاك وقبلي في الوقت نفسه، كما أنه عرس اجتماعي يتلاقى فيه الجميع على الاهداف الإنسانية المتمثلة في التضامن والتعاطف والتآزر في ظل الواقع الذي يعيشون، أو المستجدات التي تحدث بشكل طارئ.

ولعل هذه التويزة تمثل الحلول الناجعة لمعنى التساكن والتعايش في بيئة صغيرة كانت أو كبيرة، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هل مازالت التويزة قائمة؟ وهل تشكل حلا لمشاكل المجتمع المتمثلة في الثلاثي المعروف الجوع والمرض والجهل؟ لعلها تكون كذلك.

بلادنا24 – مريم الأحمد

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *