أشلواح يكتب: هل يصح موقف فرنسا بخصوص اعتبار سلطات النيجر سفيرها: “شخص غير مرغوب فيه”؟

تقوم في النيجر سلطات بحكم أمر الواقع، بعد الانقلاب الذي أطيح بالرئيس(بازوم) المنتخب بشكل ديمقراطي في البلاد. بعد إحكامه السيطرة على السلطة في البلاد اتخذ “المجلس العسكري” قرارات مهمة على المستوى الداخلي(تعيين حكومة انتقالية)، وأخرى تهم السياسة الخارجية لبلاد النيجر، من أبرزها؛ إلغاء الاتفاقيات العسكرية الثنائية مع فرنسا.. .

من بين هذه القرارات، أيضا، “مطالبة السفير الفرنسي(سيلفان إيته)مغادرة البلاد بعد إمهاله 48ساعة”. بينما فرنسا رفضت ذلك بحجة أن الجهة التي طالب بذلك لا تتمتع بالشرعية، لكي تَعتبِر السفير الفرنسي “غير مرغوب فيه”. حيث قالت وزارة الخارجية الفرنسية بأن “فرنسا تبلّغت بطلب الانقلابيين”، الذين “لا يملكون أهلية لتقديم هذا الطلب، واعتماد السفير لا يأتي إلا من السلطات النيجرية الشرعية المنتخبة”
هي معادلة معقدة تثير بعض الاشكالات القانونية
في سياق التوتر الحاصل بين فرنسا والسلطات القائمة في النيجير؟

أولا: من ناحية الاعتراف والتعامل مع السلطات القائمة في النيجر.

١- تقوم العلاقات الدبلوماسية بين الدول على أساس رضائي واتفاقي، فالمادة الثانية(2)من اتفاقية فيينا لسنة 1961تقول بأن “إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدول وإيفاد بعثات دبلوماسية دائمة يتم بتراضي الطرفين”.
إن هذا المتطلب القانوني يطرح في الواقع مسألة الاعتراف “الدولي” بالسلطات القائمة في النيجر، فمن جانب يفترض أن يكون هناك نوع من الاعتراف المتبادل بين الطرفين لقيام العلاقات الدبلوماسية بينهما، وهذا الأمر ينتفي بين الجانبين، ففرنسا لا تعترف ب”سلطات الانقلاب”، كما أن استمرار عمل البعثة الدبلوماسية يقتضي قبول “سلطات أمر الواقع” بالعثة الدبلوماسية الفرنسية الدائمة الموجودة في النيجر،
فذلك يستوجب من الناحية القانونية استمرار الاعتراف بذات البعثة من طرف السلطات القائمة في النيجر، وهذا المعطى الأخير لم يتحقق خاصة مع اتهام “المجلس العسكري” لفرنسا بالتدخل في الشؤون الداخلية للنيجر، وتحريض “الايكواس” بشن عمل عسكري ضد البلد، وخرق حظر الطيران فوق الأجواء فيها.. .

٢- بغض النظر عن عدم شرعية الإنقلاب، من الناحية القانونية، فإن المجتمع الدولي منقسم و ليس له نفس الموقف مما يجري في النيجر، وبحكم أن الاعتراف الدولي لا يفترض إجماعا دوليا؛ لقيام حكومة ما أو نظام سياسي معين- لاعتبار أن “الاعتراف” في حد ذاته ليس بعمل قانوني محض، وإنما هو مسألة سياسية تمارس وفقا لتوازنات سياسية واستراتيجية-، فإن هناك دول وقوى،اليوم، تعترف بالسلطات القائمة في النيجر وتتصرف معها وكأنها الممثل الوحيد، على الأقل في الوقت الراهن، للنجريين في البلاد، كما أن هناك نوع من “التأييد الشعبي”لِما يقع من التطورات في البلاد، وهذا يعطي نوعا من “الشرعية” والقبول بما تقوم به السلطات “غير الشرعية” الناتجة عن الانقلاب في النيجر.

كل هذه المعطيات تجعل من سلطات الانقلاب أمرا واقعا فرض نفسه على الساحة الاقليمية، وجعل جزءا من المجتمع الدولي يعترف به ويتعامل معه، بغض النظر عن الخلفيات السياسية والاستراتيجية والبرغماتية التي تحكم القوى الدولية الفاعلة في الشأن الدولي والافريقي.

ثانيا: مدى “أهلية” السلطات القائمة في النيجر لمطالبة السفير الفرنسي بمغادرة البلاد.

١- من الناحية الواقعية فالانقلابيون في النيجر هم يمارسون السلطة ويتحكمون فعليا في الشأن النيجبري ويدبرون وضعه الداخلي، فبغض النظر عن عدم شرعيتها من الناحية القانونية، فإن السلطات في النيجر تنطلق من “قانون القوة” لاصدار الأوامر وممارسة أعمال السيادة فوق تراب النيجر، كما أنه من الواجب عليها أن تحترم القانون الدولي ولو كان وضعها استثنائي مراعاة ل “مبدإ استقرار العلاقات الدولية” وعدم الدفع في اتجاه تهديد السلم و الأمن الدوليين.

حسب ذلك، ومن منطلق أن السلطات القائمة في النيجر تعتبر نفسها لها الحق في ممارسة كافة أشكل ومظاهر السيادة، بما فيها الخارجية، قامت بتوجه طلب المغادر للسفير الفرنسي، وذلك بالاستناد إلى اتفاقية فيينا لسنة 1961، حيث تقول المادة التاسعة(9) منها (الفقرة الأولى) بأنه “للدولة المعتمد لديها في أي وقت وبدون ذكر الأسباب، أن تبلغ الدولة المعتمدة أن رئيس بعثتها أو أي عضو من أعضائها الدبلوماسيين أصبح شخصا غير مقبول أو أن أي عضو من أعضاء بعثتها غير الدبلوماسيين أصبح غير مرغوب فيه ، وعلى الدولة المعتمدة حينئذ أن تستدعى الشخص المعني أو تنهي أعماله لدى البعثة وفقا للظروف…”.

ورغم أن المادة التاسعة( أعلاه) لاتلزم الدولة المعتمد لديها أن تقدم أسبابا لاعتبار دبلوماسيا ما أصبح شخصا غير مقبول لديها، فإن المادة الواحدة والأربعون41(الفقرة الأولى) يمكن أن نقرأ في جوهرها بأن التدخل في الشأن الداخلي للدول يُعدُّ من أبرز الاسباب التي يمكن الارتكاز عليها لطرد مبعوث دبلوماسي معين، إذا ما أخل ب”واجب احترام قوانين ولوائح الدولة المعتمد لديها”، كما هو الشأن لما تشير إليه السلطات في النيجر بخصوص السفير الفرنسي.

٢-بما أن “سلطات أمر الواقع” مطلوب منها توفير الحماية للبعثات الدبلوماسية(أفرادا ومقرات وحقائب ومحفوظات) وتطبيق القانون الدولي، في الموضوع، عملا بما تؤكدة اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية خاصة في مادتها (29)، والتي تؤكد على أن “ذات المبعوث الدبلوماسي مصونة، فلا يجوز إخضاعه لأي إجراء من إجراءات القبض أو الحجز وعلى الدولة المعتمد لديها أن تعاملة بالاحترام الواجب له، وأن تتخذ كافة الوسائل المعقولة لمنع كل اعتداء على شخصه أو على حريته أو على كرامته.” ونفس الأمر يجري على أماكن البعثة التي تتمتع بحرمة مصونة(المادة 22)؛ف”على الدولة المعتمد لديها التزام خاص باتخاذ كافة الإجراءات الملائمة لمنع اقتحام الأماكن التابعة للبعثة أو الإضرار بها، أو الإخلال بأمن البعثة أو الانتقاص من هيبتها”. وبما أن الأمر يستوجب على السلطات القائمة في النيجر احترام الحصانات المخولة للبعثات الدبلوماسية، في جميع الظروف والأحوال، فذلك يجعلها في مركز قانوني يؤهلها- مادامت تتحكم في الشأن السياسي الراهن وأيضا في سلطة اتخاذ القرار- لإصدار قرارات تطلب من السفير الفرنسي بمغادرة البلاد. وهي تحاول، في هذا الاطار، أن تطبق ما تقوله اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، ذلك ما ذهب إليه “البيان” الذي أصدرته “سلطات النيجر”، حينما برَّرت الطلب الموجه للسفير الفرنسي.

ثالثا: ما مدى سلامةالموقف الفرنسي؟

١-من حق فرنسا أن ترفض التعامل مع “سلطات أمر الواقع” في النيجر، لكون الاعتراف بجهة ما هو أمر يعود لإرادة الدولة وحدها، فليس هناك ما يلزم الدول في القانون الدولي أن تعترف بكيانات ما، أو بسلطات معينة، أو أن تُلزم بالتعامل معها، بالمقابل يجب على الحكومات أو السلطات الانقلابية.. أن تحفظ مصالحها(الدول)، والقيام بما يجب لحماية مواطنيها وممثلوها الدبلوماسيون، فالسلطات في النيجر ملزمة بتوفير الحماية اللازمة لبعثة فرنسا الدبلوماسية، لكنها غير ملزمة بالتعامل معها لغياب عنصر الاعتراف المتبادل بينهما، وكذلك نظرا لتصرفات البعثة الفرنسية المرفوضة وممارسات حكومتها في النيجر واتجاه السلطات القائمة فيها.

٢- ما يقع في النيجر يعتبر شأنا داخليا والقانون الدولي يؤكد على ضرورة احترام “مبدأ الشأن الداخلي للدول”، وهذا ما أكدته المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، وكذا توصية الجمعية العامة 2625(1970)..التي تمنع على الدول أن تتدخل في أمور تعود للسلطان الداخلي للدول، وعليه ففرنسا ملزمة باحترام القانون الدولي في علاقتها بالنيجر، فلَها أن تتخذ ما تريده من المواقف السياسية، بخصوص الأوضاع في النيجر، لكن ليس لها أن تفرض بعثة دبلوماسية، أو بقاء مبعوث ديبلوماسي فوق الأراضي النيجيرية.

وبما أنه من بين المهام الرئيسية للبعثة الدبلوماسية حسب ما تؤكده المادة الثالثة من اتفاقية فيينا؛
توطيد العلاقات الودية، وتدعيم الصلات الاقتصادية والثقافية والعلمية بين الدولة المعتمد لديها والدولة المعتمدة، وكذا التفاوض مع حكومة الدولة المعتمد لديها. فإنه مع توتر العلاقات الفرنسية مع سلطات النيجر أضحى معه القيام بمثل هاته المهام أمرا صعبا، خاصة في ظل رفض السفير الفرنسي الدعوة التي وجهتها له السلطات القائمة في النيجر لعقد لقاء معه، كما جاء في بيان لها يوم الجمعة 25غشت 2023. وعليه لم يبقى أمام فرنسا، من أجل حماية مصالحها في النيجر، سوى التخويل، مثلا، لبعثة دبلوماسية أخرى تقبل بها سلطات النيجر وترخص لها القيام بذلك.

٣-فرنسا لها قوات، تتجاوز 1500عسكري فوق الأراضي النيجرية، وقواعد عسكرية وُجِدت في ظل حكومات(سابقة) ونظام أطيح به ومتهم بخدمة طموحات فرنسا، وتحقيق مصالحها على حساب الشعب النيجري، فهذا الأخير ينظر، اليوم، إلى تواجد فرنسا عسكريا في البلاد(بغض النظر عن المبررات التي تقدم) وكأنه شكل من أشكال الاستعمار للنيجر، بما يكرس استغلال مقدراتها وثرواتها، ومن ثمة قدَّرت سلطات الانقلاب ورأت بأن هناك ضرورة لإلغاء اتفاقات غير عادلة مع فرنسا كان نظام “محمد بازوم” يرعى الحفاظ عليها ويعمل على تطبيقها رغم عدم مشروعيتها.

وبما أن إبرام الاتفاقيات الدولية مظهر من مظاهر السيادة الخارجية، وبما أن السلطات الموجودة في النيجر تعتقد أنها تمارس كافة أشكال السيادة ومظاهرها، فإنها ترى أن من حقها إلغاء الاتفاقيات العسكرية، وذلك في سياقٍ يعرف تصعيدا و توترا بين الطرفين؛ فرنسا والسلطات القائمة في النيجر، بعد حدوث انقلاب على السلطة الدستورية في البلاد.

لذلك يظهر أن فرنسا مطالبة، اليوم، بتطبيق ما يفرضه القانون الدولي، سواء فيما يتعلق بالشؤون الداخلية للدول واحترام اختياراتها- دون أن يعني ذلك التشجيع على قيام الانقلابات- وتوجهاتها السياسية والاقتصادية..، خاصة في إفريقيا وبالخصوص في النيجر، كما عليها أن تفعِّل طلب السلطات القائمة في النيجر وتستجيب لطلب مغادرة السفير لبلادها تفعيلا لما تقوله الفقرة الأولى من المادة التاسعة من اتفاقية فيينا لسنة 1961، حيث تؤكد”..بأن على الدولة المعتمدة حينئذ أن تستدعى الشخص المعني أو تنهي أعماله لدى البعثة وفقا للظروف..”. وعلى الدولة المعتمد لديها(وهنا النيجر) أن تؤمن كافة الاجراءات والتسهيلات اللازمة لافراد البعثة الدبلوماسية حتى تغادر البلاد.

وإذا رفضت الدولة المعتمدة(فرنسا) تنفيذ طلب مغادرة السفير، فالسلطات النيجرية لها أن ترفض الاعتراف بالسفير الفرنسي مبعوثا دبلوماسيا في بلادها، وذلك عملا بالفقرة الثانية من المادة التاسعة من اتفاقية فيينا، والتي تقول “إذا رفضت الدولة المعتمدة تنفيذ الالتزامات المفروضة عليها في الفقرة الأولى من هذه المادة أو لم تنفذها في فترة معقولة، فللدولة المعتمد لديها أن ترفض الاعتراف بالشخص المعني بوصفه عضوا في البعثة”.
هذا الرفض يكون أنذاك مؤسسا على انتهاء مهام المبعوث الدبلوماسي الذي تسمح به المادة 43من اتفاقية فيينا، للعلاقات الدبلوماسية، والتي أكدت بأن مهام المبعوث الدبلوماسي يمكن لها أن تنتهي على الأخص: “..بإخطارٍ من الدولة المعتمد لديها إلى الدولة المعتمدة..”.

د. محمد أشلواح

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *