عيد الأضحى وتراجع صلة الأرحام.. العالم الافتراضي في قفص الاتهام

مع حلول كل مناسبة دينية، يتجدد الحديث عن مجموعة من القيم والعادات والتقاليد النبيلة، المتوارثة جيل بعد جيل، والتي ضاع بعضها في ازدحام الحياة، يأتي في مقدمتها صلة الأرحام، التي كانت تعتبر أحد الفروض الاجتماعية المقدسة التي بدأت في الخفوت والتراجع الآن.

هذا الأمر يطرح عدة تساؤلات، عما إذا كان هذا التغيير له علاقة بظروف عيش الناس، والتحولات التي تعرفها المجتمعات العربية عامة، والمجتمع المغربي خاصة، أم أن للعولمة والتكنولوجيا دور يزيد من فجوة التباعد بين الأحباب.

ففي الوقت الذي كان يتودد الأهل والأقارب لبعضهم البعض في جميع المناسبات، سواء كانت دينية أو أفراح، وتحمل تعب السفر، للقاء أحبتهم التي أبعدتهم عنهم المسافات، والبوح بمشاعر صادقة تخرج من أعماق القلب، لتضرب مسامع الأذن مباشرة، أصبحت اليوم، صلة الأرحام، حكايات تتردد على مسامع جيل “الواتساب وفيسبوك”، فقط، إذ تراجعت بشكل ملحوظ في ظل صعوبة الحياة وتكدسها بالتفاصيل المادية والاجتماعية.

مكالمة لا يتعدى عمرها 5 دقائق، أو نقرة زر واحدة لإرسال تسجيل صوتي أو رسالة، أصبحت اليوم كافية بالنسبة لعدد كبير من أمثال محمد، 55 عاما، لمعايدة الأحباب، وتذكرهم بين الفينة والأخرى، وذلك نظرا لوجود عدد من الإكراهات التي أصبحت تعيق “صلة الأرحام”، لعل أبرزها، الظروف المادية التي جعلت الجميع منغلقا على حياته، يصارع من أجل توفير المزيد من المال، وينشغل عن السؤال عن أقرب الناس إليه.

في نفس السياق، أشار محمد، وهو رب أسرة تتكون من 5 أفراد، في حديث مع “بلادنا24“،إلى أن “الظروف الاجتماعية الصعبة، والبحث عن مصدر العيش، والتقدم التكنولوجي، هدد صلة الرحم في المجتمعات العربية، حيث بدأ كثيرون يلجأون إلى المكالمات الهاتفية للاطمئنان على ذويهم، وحلت محل الزيارات العائلية الحميمة التي كانت موجودة بالماضي”. مشددا على أن “مفهوم العائلة لم يعد قائما ككيان له قدسيته واحترامه كما كان في الماضي، واقتصر السؤال فقط عن الوالدين والأشقاء، وهو ما بات يهدده كذلك بفعل العولمة”.

ولتحليل عمق هذه الإشكالية التي تزداد رقعتها في الانتشار مع مرور الوقت، حاورت “بلادنا24“، عادل بلعمري، أكاديمي متخصص في علم الاجتماع، لتسليط الضوء أكثر على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء التراجع الكبير الذي عرفته صلة الأرحام، بين العائلات والأسر المغربية، ومعرفة سبل الحفاظ عليها، في ظل موجة العولمة والتكنولوجيا التي ضربت هذا العصر.

بداية، ما هي أسباب خفوت هذه الصلة في الأعياد والمناسبات الدينية؟ هل الأمر يرجع بالأساس إلى تغير ظروف عيش المغاربة، أم أن الأمر له علاقة بالتحولات التي يعرفها المجتمع المغربي؟

بالفعل، المجتمع المغربي يشهد في الآونة الأخيرة، تحولات اجتماعية وثقافية عميقة، كانت لها انعكاساتها الشديدة على العلاقات الاجتماعية، سيما على مستوى الأسرة. وهذه التحولات الجذرية، امتدت لتشمل مؤسسة العائلة، ورابط القرابة، خاصة من جانب الأب، وهذا كان له انعكاس بأثر سلبي على الرابط الاجتماعي، والذي من تبعاته، حدوث تراجع في منسوب القيم، ما ساهم في إضعاف وتراجع العلاقات الاجتماعية إلى درجة القطيعة.

هنا يجب أن ننتبه إلى أن الأسرة وامتداداتها العائلية، هي البنيات الأساسية للبناء الاجتماعي داخل المجتمع. الأسرة والعائلة مؤسسات اجتماعية أساسية، قائمة على رابطة الدم والمصاهرة، وتنبني كذلك على أساس علاقات من التعاضد والمودة والرحمة والمعاملة بالمعروف، والالتزام المتبادل بين أفراد الأسرة والعائلة وبين الأجيال، وهذا يساهم في السلم الاجتماعي، بمعنى أن الأمر ليس فقط مجرد علاقات وظيفية في المجتمع، فنحن جميعنا تلقينا نسقا من القواعد والقوانين الاجتماعية، وتشبعنا بالقيم والأعراف والتقاليد والنظم الاجتماعية، من خلال الأسرة التي تستمد أصولها وجذورها من العائلة التي لا يمكن تحت أي ذريعة التنصل منها.

نحن جميعنا تلقينا نسقا من القواعد والقوانين الاجتماعية، وتشبعنا بالقيم والأعراف والتقاليد والنظم الاجتماعية التي وصلتنا من خلال مؤسسة الأسرة والعائلة، ومن خلال ذلك أصبحنا أفراد فاعلين داخل المجتمع.

بالإضافة إلى ظاهرة العولمة والتكنولوجيا التي غزت العصر الحالي، والتي أخذت مكانة داخل الأسر المغربية، هل تعتبر العوامل المادية أيضا سبب في تراجع صلة الرحم؟

الأمر في الواقع، وبكل بساطة، له علاقة بهذا الانتقال الذي شهده المجتمع المغربي، من نظام الأسرة الممتدة، إلى نظام الأسرة النووية. وهذه ظاهرة ملازمة لجميع المجتمعات الحضرية، لأن هذا النمط الأسري يعتمد في تماسكه وتواجده الاجتماعي على قيم حديثة، كالجدب والرغبة والصداقة والحميمية على مستوى العلاقة التي تجمع بين الزوج والزوجة، وبين الأب والأبناء.

هذا النموذج، أصبح هو الغالب في المجتمع، باعتبار الأسرة النووية جماعة صغيرة تتكون من زوج وزوجة وأبناء غير بالغين، وتعمل كوحدة مستقلة عن العائلة الممتدة. ويعد هذا النمط من أنماط الأسرة، من أهم خصائص المجتمع الحديث، لأنه يعبر عن ثقافة مجتمع الحداثة التي تتمظهر من خلال بعض القيم كالحرية، وحق الملكية الفردية وحرية التعبير والرأي وسيادة نوع جديد من القيم الاجتماعية الكونية، كالسعادة والمساواة المناصفة والعدالة والرفاه، ما يمكن الفرد من إشباع رغباته الذاتية، دون العودة إلى العائلة الممتدة.

في هذا الزمن، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي من الضروريات. في نظركم، هل التواصل عبر هذه التطبيقات كافي لإيصال المشاعر بدون لقاءات مباشرة؟

لا يمكن بأي حال من الأحوال، لوسائل التواصل الاجتماعي أن تعوضنا عن اللقاءات المباشرة، بالنظر للطقوس والعادات واللقاءات العائلية، التي تربط الماضي بالحاضر وتنظر للمستقبل. وهاته المناسبات والشعائر الدينية بما لها من رمزية ثقافية، تساهم في تنظيم علاقات الفرد الروحية والاجتماعية، عبر عملية تلقين أعضاء المجتمع الجدد ثقافة المجتمع.

فعبر هاته المناسبات، يمرر المجتمع ثقافته للناشئة بكيفية مرنة وسلسة. والأسرة بالمجتمع المغربي، رغم هاته التحولات العميقة، كانت وستظل مؤسسة ترتبط بمؤسسة العائلة، وهي ليست بمؤسسة سلبية تتلقى فقط، بل هي مؤسسة تمارس دورا محوريا في تشكيل تلك المؤسسات. فهي عامل فاعل ومنفعل في آن واحد.

تتأثر بالتنظيمات الاجتماعية الأخرى، لكنها تؤثر بدورها فيها، ولا زالت تساهم في عملية التضامن والتماسك الاجتماعي. وهذا أمر نقف عليه ميدانيا خلال فترات الازمة.

بالنظر إلى رمزيتها الكبيرة لدى المغاربة، خصوصا خلال المناسبات الدينية. كيف يمكننا مواجهة تراجع هذه العادة المتجذرة وإبعادها عن سندان الخفوت ومطرقة الاندثار؟

هو لا بد من التحسيس وتعريف الجيل الحالي، بكون أن هذه العادات والتقاليد الاجتماعية، تراث لامادي، وجزء لا يتجزأ من هويتنا كأمة مغربية متماسكة، وأن الأسرة الصغيرة امتداد تاريخي لمجموعة من الأسر، الذين تجمعنا بهم صلة الدم، عن طريق إما الأب أو الأم، أو عن طريق أحدهما، وأنه لا وجود لمفاضلة بين الجهتين، عائلة الأب والأم، لأن كلاهما له دور حيوي في المجتمع.

وكلما كانت العلاقات الأسرية وطيدة، كلما ساد التماسك الاجتماعي بين أعضاء الأسرة والعائلة كبيرا، وأدى ذلك إلى إنشاء علاقات وروابط وضوابط اجتماعية سوية. فالوعي الجمعي، يجعل الفرد والجماعة على السواء، يهدفان إلى اكتساب سمعة طيبة في نظر الأفراد الآخرين والجماعات الأخرى.

ونحن كمجتمع، من مسؤوليتنا بناء وترسيخ هذا الوعي الجمعي في البنيات الذهنية للناشئة، منذ المراحل الأولية للتنشئة الاجتماعية.

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *