هل عرف المغرب عبر مساره التاريخي نوعا من الحداثة أم التحديث؟

يطرح مفهومي الحداثة والتحديث إشكالات عديدة، بحيث أنهما من المفاهيم المتداولة في شتى الميادين، مما جعل الكثير من الناس يخلطون بين مفهوم الحداثة والتحديث. ويعتبر البعض أن التحديث هو الحداثة، وبالتالي فالمغرب مجتمع حداثي يقوم على أسس دولة حديثة، وهذا غير صحيح، لأنه باختصار شديد وعند الوقوف على المفهوم البسيط للحداثة نجد أنها مرتبطة بفكر الإنسان وتسعى لتطوير بنيته الذهنية والسلوكية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، بينما يعني مفهوم التحديث التطبيقات العلمية والتقنية وأنماط العيش التي تنعكس إيجابيا على تقدم البشرية وتسهيل الحياة اليومية. في المغرب خصوصا يمكن الحديث عن مفهوم التحديث، لكن يصعب الحديث عن مفهوم الحداثة كنمط تفكير.

الحداثة والتحديث

وفي نفس السياق، قال رشيد جرموني، أستاذ علم الاجتماع بجامعة مولاي إسماعيل مكناس، في حديثه لـ”بلادنا24“، أنه “يمكن مقاربة هذه الإشكالية من زاويتين، الإشكالية الأولى هي ماذا نعني بالحداثة؟ الحداثة كما تبلورت في السياق الغربي هي تصور وجودي للحياة وللكون وللإنسان وللعلاقات، وهي مرتبطة بنوع من القطيعة مع التراث الديني ومع الكنيسة ومع الديكتاتوريات، كذلك الحداثة عند ظهورها شكلت قطيعة مع مجموعة من السرديات التي كانت تعيش فيها أوروبا، بدءا من القرنين 16 و19. وأعتقد أن القرن الثامن عشر هو الذي بلور الفكر الحداثي وأعطاه صبغة مع ما يسمى بعصر الأنوار وحركة التنوير، وهناك نص شهير لكانط يتحدث فيه عن ما هي الأنوار، ويتحدث فيه عن استقلالية الإنسان وعدم خضوعه لأي أحد، وبروز الفرد كمركز الكون، بعيدا عن كل الانتماءات والولاءات ما قبل الحداثية، كالولاء للقبيلة والعشيرة والعائلة وللقيم الدينية والإثنية والجهوية، حيث أصبح الفرد قيمة كونية إنسانية كبرى”.

وتابع رشيد جرموني حديثه، “بمعنى أنه هناك مسار تاريخي قطعته الحداثة الغربية بطريقتها وبشكلها. وهي مسار سوسيوتاريخي طويل ممتد في الزمان والمكان، وسيرورة اجتماعية متعددة الأبعاد والمستويات. وهذا المسار لم يأت بقرار سياسي أو برغبة قائد أو زعيم سياسي، بل هو يعبر عن مسار مجتمعي تبلور عبر سياقات معقدة ومركبة في الآن نفسه. ولعل الثورات العلمية والسياسية والفكرية والفلسفية والأدبية والتاريخية التي وقعت في الغرب، وتحديدا أوروبا، كانت تعبيرا عن تحول مجتمعي عميق، عكس قيم الحداثة بأبهى صورها”.

وأوضح المتحدث، أن “الإشكالية الثانية، إذا تحدثنا عن المنطقة العربية وعن المغرب بشكل أخص، فإنه يصعب أن نسقط ما وقع في الغرب في السياق الغربي الحداثي مع ما وقع معنا في العالم العربي والإسلامي، على اعتبار أن لكل مجتمع حداثته وخصوصياته وتحديثه، حيث يصعب الحديث عن كون هذه المجتمعات قد بلورت لنفسها حداثة مطابقة لسياقها ولشرطها التاريخي، فرغم الجهود الإصلاحية للعديد من المفكرين والعلماء والزعماء، بدء من القرن 19، فإنها للأسف لم تتبلور كسياق مجتمعي وكواقع سوسيولوجي”.

وأكد جرموني، على أنه “وبعيدا عن هاته الإشكالية الابستمولوجيا والتي قد لا يسعفنا الوقت للحديث عنها بتفصيل وإسهام، فإنه يمكن أن نقول -بنوع من المجازفة- أن المغرب عرف نوعا من التحديث وليس الحداثة، وكان تحديثا قسريا، على اعتبار أنه بدء مع صدمة الاستعمار والاحتلال، وشكلت نوع من الهزة للمجتمع المغربي، وتأثر بشكل كبير جدا بها بحكم القوة العسكرية والاحتلال، حينها أدخلنا في تحديث وليس حداثة، وذلك من خلال خلق مدرسة جديدة، وإدخال مفهوم الإدارة والمصنع، ومن خلال كذلك تحديث الطرق وهيكلتها وهيكلة الموانئ وغيرها من الأمور التي تم تحديثها”.

واسترسل قائلا، أنه ” هنا وجب التمييز بين مفهومي التحديث الذي يعني كل التغيرات التي تطرأ على مجتمع ما جراء استيراده للعديد من التقنيات والوسائل والتكنولوجيات والمؤسسات، كالتي سقناها سابقا، ويمكن أن نضيف إليها أشكال المؤسسات السياسية كجهاز الدولة والحزب والنقابة والجميعة والصحافة وما إلى ذلك، لكنها تبقى وسائل وآليات وليست هي الحداثة، إذ أن الحداثة هي فلسفة في الكون وهي نظرة للمجتمع والذوات وللتاريخ وللمستقبل، وتكون مؤطرة بمفاهيم وتصورات وأفكار جديدة، كالعقلانية والعلم والفردانية والتحرر والكرامة والاستقلالية والأنوار والمساواة وما إلى ذلك”.

وأشار أستاذ علم الاجتماع، إلى أنه “من بين هذه الأمور التي وقعت خلال ما يسمى بمرحلة التحديث إبان الاستعمار الفرنسي، أن غيرت بعض القناعات والأفكار والتيارات الفكرية، حتى في جهاز الدولة. وأعتقد أنه شكلت نوعا من التحديث على مستوى الدستور وهيكلة الدولة، لكن دائما هناك رجوع للدين والثقافة الإسلامية، لكن هذا المسار كان مهما بحصول موجة التحديث”.

تيار اليسار في المغرب

وفي نفس الصدد، أبرز جرموني، أن “الموجة الثانية، ارتبطت بتوجه إيديولوجي متماه مع الإيديولوجية الاشتراكية الشيوعية وفيما بعد هو ما عرف بالاشتراكية الاجتماعية، التي قادها أطياف من اليسار المغربي، وكان يتبنى فكرا يهدف للقطيعة مع الدين والتقاليد والثقافات الشعبية إلى درجة استئصال تلك الأمور من المجتمع. ولكن هذا التيار الفكري لم ينجح في المغرب بشكل كبير، نظرا لأن هذه الموجة لم تصل إلى مستوى الانغراس في القيم المجتمعية، ولم تشكل توجها عاما لدى الشعب، بحيث بقيت توجها نخبويا، هذا مع العلم أنه كانت لهذه الموجة انعكاسات على العديد من الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، يمكن أن نذكر من بينها بروز الحركات النسائية، والتي استطاعت أن تحقق قفزة في حقوق المرأة المغربية”.

وأبرز أن “هذه الموجة، ووجهت بشراسة من قبل الدولة بداية، وفيما بعد التيار الإسلاموي الذي تواطأ –بشكل مباشر أو غير مباشر- مع الدولة لإيقاف أي توجه نحو تحديث المجتمع المغربي، بإقامة قطيعة من التراث الديني والثقافي التقليدي. في هذا الصدد يمكن الإشارة إلى القرارات التربوية التي شملت التعليم الجامعي خصوصا في تقليص شعب الفلسفة وعلم الاجتماع، وإقفال معهد العلوم الاجتماعية التي كان يديره باقتدار الراحل بول باسكون، وإقحام شعب الدراسات الإسلامية في كليات الآداب والعلوم الإنسانية بكل جامعات المملكة. وثانيا، وهو الأخطر، تعميم الكتاتيب القرآنية في كل بقاع المملكة لكونها تحافظ على دوام النظام السياسي”.

وأردف المتحدث قائلا، أن “كل هذه المبادرات وغيرها –مما لا يتسع المجال للوقوف عندها- شكلت نوعا من التوقف في مسار الحداثة الوليدة التي كانت تسري في جسم المجتمع المغربي، لكن هذا السياق عرف محطات مهمة في هذا المسار، كان أهمها نزع القداسة عن الدين وعن التأويلات الدينية، خصوصا ما ارتبط ببعض القيم ذات المرجعية الدينية”.

التحرر والارتباط بالتقاليد

وقال رشيد جرموني، في حديثه عن المرحلة الأخيرة في هذا السياق، “وهي عن الموجة التي بدأت مع جيل التسعينيات من القرن الماضي، وهذه الموجة نوعا ما بدأت تحررية، هي لا تعبر عن توجه عام، ولكن تشكل نوع من التعبيرات (لم تصل بعد لتشكل رأيا عاما). التحررية التي تريد أن تعانق القيم الكونية وأن تجسد قيم العقلانية وقيم التحديث والحداثة وقيم ترفض التقاليد، وبدأت هذه القيم نوعا ما تبرز من خلال تعبيرات معينة وهي تعبيرات شبابية بالأساس، خصوصا عند الحركة النسائية ورفض بعض الأمور كتجريم العلاقات الرضائية خارج إطار الزواج، ورفض نظام الإرث المعمول به في المغرب، ورفض بعض بنود القانون الجنائي خاصة المتعلقة بالحريات الفردية، والتعبير داخل المجتمع عن بعض الميولات الجنسية كالمثلية، هذه التعبيرات كأنها تريد أن تنحو نحو بعض القيم الحداثية بطريقة غربية، لكنها تصطدم بواقع مرير، وهو هيمنة الدولة وهيمنة التقاليد ومواجهة حركات الإسلام السياسي لها”.

وأفاد الأستاذ الباحث، أنه “وبالرغم من أننا نجد أن هناك بعض الفئات المجتمعية (كالشباب والنساء) تريد إقامة القطيعة مع كل ما هو تقليدي، وتبني كل ماهو حداثي بالمعنى الكوني والإنساني، نجد أن الغالبية هي في سلوكاتها قد تعبر عن تحرر معين، لكن على مستوى المعتقدات وعلى المستوى الفكري، لازالت مرتبطة بالتقاليد والأعراف، وهذا نسميه نوع من التلفيق بين نموذجين، الأول تقليدي ديني، والثاني حداثي تحرري، وهي تنعكس على مستوى السلوك والممارسة، وقد لا نجد لها خيطا فكريا جازما لها. ولهذا –في اعتقادي- يصعب الحديث عن الحداثة في المجتمع المغربي، اللهم إذا تحدثنا عن تحديث وعن نزوعات نحو الحداثة، أكثر منها كتوجه فلسفي ومجتمعي وسياسي وفكري”.

بلادنا24 – خديجة حركات 

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *