بورتريه| محمد حسن الجندي.. نجم مغربي لمع في سماء المشرق

المسرح أبو الفنون منذ نشأته إلى الآن، نظراً لما له من قوة التأثير والجاذبية، وقد انطلقت وظيفته من مفهوم “الكاثرسيس” أي التطهير، فالمسرح بناء على أرسطو يقوم على فكرة التطهير لدى المشاهد بمعنى أنه عند المشاهدة والتأثير والإنفعال يتطهر المشاهد مما فيه من عقد أو سلبيات عامة فيخرج من المسرح وقد شعر بذلك الارتياح الذي يملأ جوارحه.

وامتد هذا الفن عبر مراحله الطويلة حتى أصبح ما نشاهده اليوم من قوة التأثير لدى المشاهد، ولا يختلف دور المسرح المغربي عن بقية المسارح الأخرى في هذا المفهوم لاسيما بعد أن سخر له فنانون مسرحيون موسوعيون في لعب هذه الأدوار أمثال الفنان المسرحي محمد حسن الجندي في شهرته التي عمت المغرب، والمشرق على حد سواء.

وجسد أدوارا عدة سواء كانت مسرحية، أو سينمائية، أو تلفزيونية، من قبيل دوره المشهود في فيلم الرسالة، ومسلسل آخر الفرسان بدور “شواش” ليكون محمد حسن الجندي أحد الفرسان المشهورين الذين تركوا بصمة واضحة ومؤثرة داخل وخارج المغرب.

ولد القصور

أبصر محمد حسن الجندي النور في حي القصور بمراكش سنة 1938، وهو ينحدر من عائلة أمازيغية، كما استشعر جمالية اللغة العربية، وعظمة القرآن منذ نعومة أظافره خلال دراسته في الكتاب، فقال عن هذه الفترة ” تعليمنا الديني بدأ في الكتاب، وبدأنا نشعر ونحن أطفال أننا في القمة لأن قمة اللغة هي القرآن، فكلما ازداد فهمنا له، ازددنا نضجا وإدراكا لمجتمعنا وأنفسنا، والتمسنا العذر في الوقت نفسه لمن لم يحظ بإدراك عظمة هذا الكتاب العزيز”.

تعرف “ولد القصور” مبكرا على المسرح حينما التحق سنة 1946 بالمدرسة الحسنية، واختار بعدها دراسة الشريعة وعلوم الدين في مدرسة ابن يوسف التاريخية، ترك مراكش بعد أن أنهى دراسته الثانوية لينتقل إلى الرباط التي ستشهد ولادة أيقونة من أيقونات الفن والمسرح.

انضم الجندي إلى فرقة الوحدة والأمل المسرحية، ثم بات أحد أعمدة فرقة التمثيل العربي التابعة للإذاعة والتلفزة المغربية، كما تزوج من الفنانة المغربية فاطمة بنمزيان ورُزق منها بأربعة أبناء جميعهم تشربوا ينابيع الفن، وساروا على درب محفوف بالنجاح والتألق في مجال الفن والإخراج.

وفي فترة التسعينيات شغل منصب رئاسة مندوبية وزارة الثقافة بمراكش، وعمل بهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” معدا ومقدما لبرنامج” كشكول المغرب” منذ سبيعينيات القرن المنصرم، بعد أن قدم الأزلية التي تروي سيرة أحد ملوك اليمن “سيف بن ذي يزن” عبر أثير الإذاعة الوطنية ليتوهج اسمه كالشمس في سماء الإبداع، وتبلغ شهرته إلى حدود  العالم العربي عبر تقمصه لشخصيات تاريخية لا تليق إلا له، ولا ترتقي إلا به.

حنجرة ذهبية

يمتلك الجندي صوتاً جهورياً رخيما وإلقاءً فريداً ساعداه على لعب أدوار تاريخية عبرت حدود الإبداع، كما عبرت حدود المغرب، فالتصق اسمه في مخيلة المشاهدين بالشخصيات التي لعبها وبات يعرف بـ”أبي جهل”، و”شواش”، وغيرها من الأدوار التي تقمصها، وجسدها باحترافية، وإبداع ذهلت كل من شاهدها.

لم يعرف الجندي بكونه ممثلا مسرحيا، وتلفزيونا فقط بل كان كاتب سيناريو، وممثل إذاعي، وأحد رواد المسرح تأليفا، وإخراجا، وتدريسا.

وقدم نفسه للجمهور المغربي من خلال أعمال إذاعية استلهم فيها التراث المغربي فضلا عن أعماله الدرامية في التلفزيون والسينما ومنها فيلم طبول النار، وظل الفرعون للمخرج سهيل بن بركة، وذلك قبل أن تصل صدى أعماله إلى الجمهور الواسع في العالم العربي عبر مشاركات مميزة مكنته من التبوؤ على عرش الإبداع في تاريخ السينما العربية والعالمية، وهو يعد بذلك من أشهر الفنانين المغاربة الذين كسروا حاجز المسافات الفاصلة بين السينما المغربية ونظيرتها في المشرق العربي، فكان حاضرا في فيلم الرسالة للمخرج السوري مصطفى العقاد بدور أبي جهل الذي لعبه بإتقان، فضلا عن دوره في فيلم القادسية بشخصية رستم قائد جيوش الفرس الذي قدمه بإبداع لا يقل عن دوره في الرسالة.

كما شارك الجندي تلفزيونيا كذلك في أعمال ضخمة من قبيل حضوره في مسلسل صقر قريش للمخرج السوري حاتم علي عبر تجسيده لشخصية أمير قرطبة، ومسلسل الخنساء في دور شقيقها صقر، وفي مسلسل “فارس بني مروان” في دور زفر بن الحارث وصولا إلى مشاركته في مسلسل عمر الذي روى سيرة الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب وأدى فيه دور عتبة بن ربيعة وغيرها من الأعمال الحاضرة في وجدان المشاهد المغربي والعربي.

وصرح الجندي في إحدى حواراته عن هذه المحطة الهامة في حياته الفنية قائلا: “منذ فترة 1973 عندما يسر الله الدخول إلى الساحة العربية، كانت خطوة مهمة بالنسبة لي وشهادة أعتز بها كونها تأتي من الأجانب دون أن تغيب كذلك شهادة داخلية من الوطن”.

ولعل أهم دور للراحل الذي طبع مخيلة المشاهد العربي دور “أبو جهل” في الرسالة، ومازالت “صفعة حمزة” عالقة في ذاكرة المشاهد العصية على النسيان، فاستطاع من خلال الصوت الأجش، والصورة المقنعة أن يتقمص الشخصية بصورة مماثلة لما جاء في كتب التاريخ، وما طبعته ارتسامات المخيلة العربية عن أبي جهل، فجسدها كما لو أنه الشخصية ذاتها، فناله قسطا من العداء عند مشاهدة الفيلم، وكثيرا من الإشادة عند الانتهاء منه.

كان الراحل مولعا بجمال اللغة العربية، وكان يتحدث في جل لقاءاته التلفزية بالفصحى لأنه لا يحبذ كما جاء في إحدى تصريحاته أن يقدم الفنان للناس أعمالا بالدارجة تتضمن عبارات استقاها من المستعمر الفرنسي كون الدارجة المغربية الأصيلة امتداد للغة العربية، والفنان يجب أن يعي ذلك لأن الفن لغة.

 تكريم مستحق

وتكريماً لجهوده، وعطاءاته خلال مسيرة فنية مليئة بالنجاحات، والتميز، حظي الراحل محمد حسن الجندي بوسام الثقافة من جمهورية الصين الشعبية، كما نال وسام “عملة باريس” مقدم من المركز العالم العربي سنة 1999،و كرم كذلك في الدورة الثانية من مهرجان مراكش الدولي للفيلم “بنجمة مراكش” رفقة فنانين عالميين، ليصبح بذلك أول مغربي ينال هذا التكريم، بالإضافة إلى الكثير من الأوسمة والجوائز عرفانا بموهبته الفذة، وتخليداً لمساره الحافل بالعطاءات.

لكن التكريم الحقيقي بحسب محمد حسن الجندي ما قاله في أحد لقاءاته:” التكريم كما أراه، هو فسح المجال للعطاء، وهو ألا نتركه يغيب عن الأنظار، وأن نسأل عنه، هذا تكريم الفنان”.

رحل فارس المسرح عن عالمنا في 25 فبراير 2017، وترجل عن صهوة الإبداع والتألق بعد أن صال وجال فيه صولات وجولات بوأته المنزلة اللائقة بين نجوم المسرح وأبطال المسلسلات التي حظي فيها بالإعجاب والتقدير لمبدع مغربي طبقت شهرته الآفاق.

بلادنا24 – مريم الأحمد

تابع بلادنا 24 على Bladna24 News

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *